قوة الاقتصاد الألماني تعتمد على روح المبادرة والابتكار والتقنية
بنظرة سريعة على مقومات الاقتصاد الألماني والأحداث والتطورات التي شهدها ومر بها، تجعل أي مراقب يوقن أن روح المبادرة والابتكار والتقنيات الحديثة ستعلب دوراً عظيماً في المحافظة على قوة هذا الاقتصاد وتطويره بشكل دائم. وهنا لا يمكننا إغفال المراحل التاريخية التي مرت بها ألمانيا قبل أن تصل إلى ما هي عليه اليوم. فعلى الرغم من الفترات العصيبة التي عاشها الاقتصاد الألماني في الماضي، إلا أنه كان يجتاز الأزمات بتصميم كبير ويخلق النجاح تلو الآخر.
بعد الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م) تأثرت ألمانيا، كغيرها من الدول الصناعية، بمرحلة الكساد الاقتصادي الكبير التي سادت وقتها، إلا أنها اجتازت الأزمة بنجاح، وذلك بفضل إنتاجها الضخم من الحديد وتنوع الاستثمارات الأجنبية فيها.
أما عقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945م)، فقد قسّمت ألمانيا إلى أربعة مناطق هي ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية ومقاطعة السار ومقاطعة الرور، وقام الحلفاء بعدها بتسريح الجيش الألماني وإغلاق جميع المصانع الداعمة للصناعات الحربية، الأمر الذي أدى إلى تدمير جميع إمكانيات ألمانيا الصناعية والمتمثلة بإنتاج السفن والطائرات، في حين أرغمت الخطة الاقتصادية الأولى، التي وقعها الحلفاء في 29 مارس 1946م، ألمانيا، على تخفيض صناعتها الثقيلة بنسبة 50% قياساً بمستوياتها في عام 1938م، ونتيجة لذلك تحدد إنتاج ألمانيا من الحديد بمقدار 5.8 مليون طن سنوياً والتي تعادل 25% من طاقة ألمانيا الإنتاجية من الحديد.
وكانت الخطوة التي قامت بها ألمانيا في عام 1951م، بموافقتها على المشاركة في الإتحاد الأوربي للفحم والحديد، إيذاناً برفع القيود على القدرات الصناعية والإنتاج الفعلي المفروض على ألمانيا من قبل السلطة الدولية، وأعيدت منطقة الرور إلى الحكومة الألمانية في الأول من كانون الثاني عام 1957م، بيد أن فرنسا استبقت لنفسها حق استخراج الفحم حتى عام 1981م.
ومن اللافت أنه لم يكن لإخفاق ألمانيا في الحرب تأثير كبير عليها، إذ نجحت في حماية صناعاتها المحلية والاستثمارات الأجنبية فيها، كما استفاد الشعب في ألمانيا الغربية من قانون إصلاح العملة لعام 1948م وما يعرف بـ "خطة مارشال"، ليحقق أسرع نمو اقتصادي في العالم مع مطلع الخمسينيات، وسميت هذه المرحلة بـ "المعجزة الاقتصادية" والتي شهدت ارتفاع الإنتاج الصناعي بنسبة 38%، كما تجاوز الإنتاج الزراعي نسب الإنتاج في فترة ما قبل الحرب.
وببناء جدار برلين في العام 1961 تم تقسيم ألمانيا إلى جمهوريتين، الأولى: جمهورية ألمانيا الديمقراطية الاشتراكية (ألمانيا الشرقية) والثانية: جمهورية ألمانيا الإتحادية (ألمانيا الغربية). ورغم كل ما مثله هذا الجدار من تفرقة، إلا أن انهياره في عام 1989 شكل منعطفاً هاماً في تاريخ البشرية بالكامل، فقد سجل هذا الحدث نهاية حقبة تخللتها أكثر الصراعات دموية وتعقيداً في العالم، بدءاً بالحرب العالمية الثانية وتقسيم ألمانيا إلى مناطق نفوذ لدول الحلفاء المنتصرة في تلك الحرب وانتهاءً باستعار الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي الشرقي والرأسمالي الغربي.
وفي 3 أكتوبر من عام 1990م، تشكلت "جمهورية ألمانيا الاتحادية"، وذلك بانضمام ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، حيث تعتبر ألمانيا الموحدة اليوم إحدى أقوى الدول الأوروبية. ويمكن القول إن الوحدة ساهمت وبدون أدنى شك في زيادة ثقل ألمانيا على الساحة السياسية الدولية وحررتها من الكثير من القيود التي فرضتها الحرب الباردة، ولكن في نفس الوقت فإن توحيد الألمانيتين شكل عبئاً ثقيلاً على اقتصاد البلد!
وعلى الرغم من كل ذلك، فقد عاد الاقتصاد الألماني تدريجياً إلى العمل بكامل طاقته، لا سيما مع قيام الحكومة الألمانية بإصلاح بعض القوانين والتشريعات المنظمة للأنشطة التجارية والصناعية في البلد. ولعل "أجندة 2010"، وهو البرنامج الذي وضعه المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر لإصلاح الاقتصاد والنظام الضريبي والاجتماعي والصحي، عن طريق خفض الضرائب على الشركات وتقليل أعباء الدولة المالية في المجالين الاجتماعي والصحي، يعتبر أحد أشهر البرامج الإصلاحية التي طبقتها الحكومة الألمانية.
وهناك مجموعة حاسمة من العوامل التي تشكل اليوم قدرة ألمانيا التنافسية، نذكر منها امتلاكها لأعلى معدلات الإنتاج عالمياً، وانخفاض تكاليف وحدة العمل. كما ساهمت سلسلة من الاصلاحات الاجتماعية في السوق بتحويل النمو الاقتصادي الألماني إلى أحد أكثر مواقع الإنتاج في أوروبا فعالية من حيث التكلفة. وكأقوى اقتصاد في أوروبا تقدم ألمانيا سوقاً جذاباً من الدرجة الأولى، وذلك بفضل موقعها الاستراتيجي وسهولة ارتباطها بالأسواق الأوروبية الداخلية وكذلك دول شرق ووسط أوروبا. وتتميز ألمانيا بقوتها الإبداعية وتميزها التكنولوجي في قطاع التكنولوجيا العالية، حيث تحصل باستمرار على أعلى التقديرات نظراً لبنيتها التحتية واللوجستية.
ونظراً لموقعها المميز في قلب وسط أوروبا، فهي تحتل المرتبة الأولى في السوق الأوروبي للنقل والإمدادات، حيث يتم التوزيع بنجاح وفي الوقت المحدد عبر طرق مختصرة، ويرجع ذلك للطاقة المتطورة والبنية التحتية الممتازة للاتصالات، إضافة إلى شبكات النقل الجيدة. وتعتبر شركة السكك الحديدية الألمانية "دويتشه بان" رائدة في عالم المواصلات، نظراً لتوظيفها أحدث وأفضل التقنيات في مشاريع بناء وتطوير شبكات السكك الحديدية التي تشكل دعماً قوياً لحماية البيئة والتنمية المستدامة وتسهم بشكل فعال في التقليل من الانبعاثات الغازية وتعمل على تنويع مصادر الدخل الاقتصادي وتعزيز الصادرات في مجال الدعم اللوجيستي والبناء.
ولكن تميز ألمانيا يعتمد أولاً وأخيراً على القوى العاملة التي يضمن لها النظام التعليمي تحقيق أعلى المستويات، حيث أتاح ذلك تأهيل 81% من سكان ألمانيا للدخول إلى مستوى جامعي أو لامتلاك المؤهلات المهنية المعترف بها. ومن خلال دعم الدولة لأعمال البحث والتطوير، باتت ألمانيا من رواد الابتكار في العالم، حيث أنها تتصدر المرتبة الأولى في أوروبا في مجال البحوث. هذه القوة المبتكرة التي يدعمها الالتزام جعلت ألمانيا أيضاً تحتل المرتبة الأولى في تسجيل براءات الإختراع في أوروبا والقوة الرائدة في العالم في الحلول التقنية العليا. كما إن نظام التعليم الألماني، خاصة ما يُعرف بنظام التدريب المهني المزدوج يعد من أهم عوامل نجاح الاقتصاد الألماني.
وفي عصرنا هذا فإن التقنية المتطورة تحدد القدرات التنافسية للدول. وتستيطع التقنيات أن تلعب دوراً مهماً في إنتاج الطاقة المتجددة ودعم عملية التنمية المستدامة، بحيث تلبي احتياجات الحاضر وتعمل على ضمان احتياجات الأجيال القادمة من خلال إحلال تنمية اقتصادية واجتماعية وبيئية مستدامة. ووضعت ألمانيا، في السنوات الأخيرة، هدفاً لها يقضي بالحفاظ على البيئة ودفع عجلة النمو الاقتصادي دون أن تتناقض العمليتين. كما أدخلت ألمانيا مجموعة من القوانين والحوافز وبرامج الإصلاح لتعزيز مصادر الطاقة المتجددة. وتأتي سياسة البلاد في مجال الطاقة المتقدمة كرد فعل على اثنين من أكثر تحديات عصرنا إلحاحاً: أمن الطاقة وتغير المناخ. وبناء عليه، فإن هناك حاجة كبيرة لتكنولجيات فعالة للحد من استهلاك مصادر الطاقة الرئيسية. ومن الجدير بالذكر أن ألمانيا تستثمر مبالغ طائلة في مشاريع حماية البيئة وترشيد استخدام الطاقة وتوفير مصادر بديلة لها، لاسيما أن صناعة الطاقة المتجددة تتصدر الطليعة في القرن الحادي والعشرين.