التاريخ يتجمد في بعض زوايا المدينة!

رحلة إلى برلين بتوقيت ألمانيا الشرقية

 

جدار برلين سقط قبل 25 عاماً. والعلم الألماني يرفرف اليوم بألوانه الأسود والأحمر والذهبي أمام مبنى البرلمان الألماني (رايشسستاغ). لكن نبض الماضي مايزال موجوداً في زوايا معينة من العاصمة الألمانية برلين، والتي تُدخل المرء في مرحلة تشبه ملاجئ الحرب الباردة خاصة بالنسبة للسياح المهتمين بالتاريخ وللجيل الراغب في التعرف على الحياة التي كانت سائدة في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. فمن الفنادق الأنيقة التي تشبه السكن السوفياتي في سبعينيات القرن الماضي إلى المحلات التي تحتوي على منتجات ألمانيا الشرقية سابقاً، تُشعرك كلها أن برلين مقسمة على الرغم من سقوط الجدار! حتى أن هناك كلمة ألمانية "أُستالغي" ما هي إلا مزيج بين كلمة "أُست" (أي شرق) و"نوستالغي" (أي حنين)، وبذلك يقصد الحنين إلى الشرقية!

 

قد يتصور المرء أنه لن يشاهد أي آثار متبقية من برلين الشرقية، لكنك عندما تقضي وقتاً كافياً في التجول عبر الشوارع الخلفية يمكن أن تصل إلى مبنى أو ساحة تشعرك وكأنها تجمدت في عام 1989. ويوجد معظمها على أطراف المدينة، إلا أن هناك امتداد لشارع (أوغوست شتراسه)، الذي يعتبر شارع الفنون في حي (ميته)، يبدو وكأنه نقيضاً للمعارض الفنية، حيث تستيطع أن تشاهد في هذه المناطق أبنية رمادية اللون.

توجه إلى مكان آخر، وتحديداً إلى ساحة الكسندر (الكسندر بلاتس)، فهناك يوجد برج التلفزيون (فيرنزيه تورم) الذي يبلغ ارتفاعه 368 متراً، ومايزال يعتبر أطول مبنى في برلين، فضلاً عن كونه واحداً من أهم المعالم السياحية والمواقع الأكثر جاذبية فيها. وفي الواقع، تم إنشاء هذا المبنى في ستينيات القرن الماضي من قبل ألمانيا الشرقية التي كانت ترغب في إثبات تفوقها التقني من ناحية وأن تُوجد جهاز إرسال ذي أداء قوي يصل بثه إلى كل أنحاء البلاد من ناحية أخرى.

وخلال تواجدك في هذا البرج سوف تستمتع بإطلالة شاملة مذهلة على المدينة، فمن ارتفاع 203 و207 متراً يمكنك رؤية المدينة كلها مع معالمها السياحية الكثيرة مثل مبنى البرلمان (الرايشستاغ) وبوابة براندنبورغ (براندنبورغر تور) ومحطة القطارات الرئيسية (هاوبتبانهوف) وكذلك أيضاً الاستاد الأولمبي (أولمبيا شتاديون) وجزيرة المتاحف (موزيومس إنزل) وساحة بوتسدام (بوتسدامر بلاتس). وقد تتمكن من مشاهدة مناظر خلابة تصل إلى مسافة 40 كم عندما تكون السماء صافية. كما ستحظى أيضاً بفرصة دخول مقهى (تيله كافيه) الذي يدور حول محوره مرة واحدة تمتد لنصف ساعة. ويبدو أن هذا المقهى مايزال مفعم بالذكريات، فهو ولم يتغير كثيراً منذ كان (إريك هونيكر) زعيماً لألمانيا الشرقية، حيث تجد فيه أطباقاً مثل لحم العجل مع فطائر البطاطا. ولكي تجلس وتحظى بمنظر الغروب الرائع من الأفضل أن تحجز مبكراً من خلال شبكة الإنترنت قبل عدة أسابيع على الأقل.

وبعد العشاء يمكنك القيام بنزهة في ساحة الكسندر، التي يطلق عليها الناس اختصاراً اسم (ألكس). وهي مكان مركزي للنقل في منطقة برلين (ميته) وتعتبر واحدة من أكثر الأماكن التي يتم زيارتها في برلين وفي نفس الوقت أيضاً واحدة من أكثر المعالم السياحية المشهورة في المدينة. وبينما شهدت قبل الوحدة مظاهرات لا تنسى، فإنها تستضيف معارض عديدة كالمعرض المفتوح الذي شهدته في عام 2010 تحت عنوان (الثورة السلمية 1989/1990) وذلك بمناسبة الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين.

ولكي تعيش حفلات الحاضر في أجواء الماضي وكأنك في عام 1989، فما عليك التوجه إلى نادي الجمهورية (كلوب دير ريبوبليك)، وهو مستراح في حي (برنتسلاور بيرغ) سمي بناءً على اسم قصر الجمهورية، مبنى البرلمان الذي تم تفكيكه في ألمانيا الشرقية. وفي الواقع حتى المصابيح تم جلبها من هناك. وفي هذا النادي يتم انتقاء الموسيقى كانتقاء المشروبات، حيث تتنوع الأغاني والموسيقية (دي جيه). أما إذا سمعت موسيقى تصدح عبر الشارع، فإنها تكون قادمة من (بالهاوس أُست)، مدرسة الرقص السابقة، التي تستضيف أحياناً تجمعات لوقت متأخر من الليل.

ومن المعروف عن برلين أنها تتنفس فناً، حيث تمتلك أكثر من 170 متحفاً، ولكن واحداً منها فقط يستعرض الكيفية التي عاش فيها سكان برلين الشرقية تحت الحكم الشيوعي، حيث يقدم متحف جمهورية ألمانيا الديمقراطية (دي دي ار موزيوم) رحلة من وراء الستار الحديدي مع أعمال فنية أصلية وأفلام أرشيفية حول الحياة في ألمانيا الشرقية السابقة ويوسع النطاق ليصل إلى تأثير جهاز أمن الدولة والجدار في الحياة اليومية للناس: كيف اختلفت الحياة بالمقارنة بالحياة في ألمانيا الغربية سابقاً؟ وما كم أثرت الدولة على حياة الناس؟ وأين كانت الديكتاتورية أكثر وضوحاً في الحياة اليومية؟ وما هي الإنجازات التي تعتبر إيجابية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية وهل هي إيجابية حقاً؟

أما بالنسبة لهؤلاء المأخذون بفيلم (حياة الآخرين) (ذا لايفز أوف آذرس) الحائز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية وعلى عدة جوائز ألمانية والذي تدور معظم أحداثه حول طبيعة نظام الحياة في ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين، فينبغي عليهم أن يزوروا متحف شتازي (شتازي موزيوم) الذي كان يضم في السابق مكاتب أمن الدولة الـ (شتازي).

وبالنسبة لشارع كارل ماركس (كارل ماركس آليه)، وهو بوليفارد ضخم ولكن بأسلوب العمارة الستالينية، فهو يرحب بتجار الأعمال الفنية. قبل سنوات وزعت معارض عديدة أعلامها على طول البهو، مقدمة مناطق فنية جديدة أخرى في برلين. كما يتواجد هواة جمع التحف حول الأماكن الفخمة.

ولابد لنا من القول إن برلين كانت مدينة كبيرة حتى عندما كانت مقسمة. ولتستكشف أماكن أكثر، فما عليك إلا مشاهدة برلين الشرقية القديمة خلف عجلة القيادة في سيارة (ترابانت)، التي كانت رمزاً للأفضل أو للأسوأ من النظام الشيوعي. لذا انطلق في مغامرة رائعة بواسطة إحدى سيارات ترابي-سفاري التي لديها أسطول محبوب يمثل معالم الماضي مثل معرض الجانب الشرقي (إيست سايد غاليري) في حي (فريدريشسهاين).

وخلال جولتك لا ينبغي عليك تفويت فرصة التعرف على الكيفية التي عاش بها الجانب الآخر. فبينما كان أهل برلين الشرقية ينظفون أسواق الفواكه والخضروات الطازجة، كان المغني الأمريكي إيغي بوب وآخرون يتمتعون بالمشروبات في حانة باريس (باريس بار) في حي شارلوتنبورغ الراقي الذي كان جزءاً من برلين الغربية. ومازال الثراء في جعبة هذه الحانة الصغيرة، التي تعتبر نقطة تجمع للفنانين والمخرجين، لاسيما خلال مهرجان برلين السينمائي (برليناله). وبالإضافة إلى فرصة مصادفة الفنانين والتعرف عليهم، يمكنك أن تحظى أيضاً بتذوق شرائح اللحم الشهية والمشروبات اللذيذة.

وعلى الرغم من أن برلين، خلال فترة الحرب الباردة، أدارت ظهرها لنهر شبريه الذي كان هو نفسه مقسماً، إلا أن لدى واجهة النهر اليوم بعضاً من الحياة الليلية الأكثر روعة في المدينة، وذلك من خلال العديد من النوادي الشاطئية الحضرية.

 

إعداد: قيس الجاموس